آ
آمنت بالله أن الحق منتصر *** والظلم مندحر والكفر منهار
آمنت بالله إيمانا عرفت به *** أن الزمان على الباغين دوَّاروالذي
لا يرتاب فيه أولو الألباب، والذي يستيقنه أولوا العقول الواعية، أن
المستقبل كله لهذا الدين، وأن الغلبة والظهور له وحده، فهم يوقنون بأن
الله ناصرهم وناصر دينه مهما طال الزمن، ومهما قويت شوكة الباطل.
لله بالله سار الصــادقون إلى *** وعد وثيق لمن قد خصـه الله
لا ريب عندهم في عز مطلبهم *** ساروا على دربهم والموعد الله
تحدوهم للمعالي همة سمقــت *** وما يشـاؤون إلا ما يشاء الله1وعلى
النقيض من هؤلاء يوجد أناس يشكون ويشككون في صدقية وقوع ما بشر به البشير
النذير صلى الله عليه وسلم، ممن انحط عندهم الإيمان وانعدم عندهم الإيقان،
صدَّقوا بالواقع وبكذب أهل الباطل المفضوح المتوالي، وبأماني الكاذبين
المنافقين، وأيقنوا ببقائهم وشككوا في سنة الله، وفي أيامه التي يداولها
بين الناس، ولم يصدقوا بما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم،
ويحسبون أنهم على اليقين، وهم بذلك يكشفون عن ضعفٍ في الإيمان، ونقص في
اليقين بموعود الله ووعده، ويبرهنون على أنهم لا يرون أبعد من مواقع
الأقدام.
ولمثل هؤلاء قال أحد الناصحين:
أتقيس نفسك بالألى نـالوا المنى *** عند المـليك وأنت لاه أقــطع
لبَّوا نداء المرسلين وصــدقوا *** ببشائر الحسـنى لهم وتسارعوا
وعبثتَ أيـام البطــالة لاعبا *** من كل شيطان غوي تسمــع2عن
أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها
الناس: إن الناس لم يُعطوا في الدنيا خيرا من اليقين والمعافاة، فسلوهما
الله عز وجل))3.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: " قلما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه:
((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما
تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا
بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على
من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل
الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا))4.
وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء الخالد فيقول: ((اللهم
أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر))5، فيعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل
الله الإيقان الذي لا شك معه، لأن من أوتي اليقين فقد أوتي خيرا كثيرا.
نماذج من أهل الثقة واليقينالأنبياء
وأتباعهم لهم الحظ الأوفر والقِدح المعلى من الثقة في الله، وكيف لا يكون
لهم ذلك، وهم الذين بُعثوا من أجل غرسها في نفوس الناس وتربيتهم عليها.
الثقة
بالله نجدها جليّة عند سيدنا موسى عليه السلام لما انطلق هو ومن معه من
بني إسرائيل هاربين من كيد فرعون، وتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوا، فقال
له بنو إسرائيل {إنا لمُدرَكون} قالوها من شدة الخوف، لأن فرعون وجنوده
اقتربوا منهم، وانتهت منهم كل حيلة ونفدت كل وسيلة، فعدوّهم من خلفهم،
والبحر من أمامهم، لكن موسى الواثق بالله وبمعية الله وبنصر الله، وإن كان
لا يدري كيف يكون، أراد أن يُبعد عنهم الخوف والهلع، ويضع مكانه السكينة
والطمأنينة، ويعطيهم درسا في الثقة واليقين، فأجابهم بلسان الواثق: {قَالَ
كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِين}6، إنها ثقة عالية بربه، أنسته أن
يفكر في أي أمر يمكن أن ينجو به، فجاءه الفرج من الله جل وعلا بعد هذه
الثقة العظيمة: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ
الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}7،
ونجّى الله موسى وبني إسرائيل من كيد فرعون.
وها هو سيدنا إبراهيم عليه
السلام يترك زوجه هاجر وابنه في واد غير ذي زرع، وفي أرض قاحلة خالية، لا
ماء فيها ولا طعام ولا جيران، إنها مكة قبل أن تُعمَّر" فتبعته أم إسماعيل
فقالت يا إبراهيم: أين تذهب وتتركُنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا
شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك
بهذا؟ قال نعم، قالت إذن لا يضيعُنا"8، إنها منتهى الثقة من سيدنا إبراهيم
وزوجه عليهما السلام، فرزقهم الله ماء زمزم، الماء والغذاء المبارك جزاء
هذه الثقة.
والثقة واليقين بالله تعالى هما اللذان شجّعا أم موسى على
إلقاء ولدها في الماء، إذ لولا ثقتها بربها لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في
تيار الماء تتلاعب به أمواجه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ
فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين}9، فكان جزاء هذه الثقة العظيمة أن رده
الله إلى أمه وجعله نبيا رسولا، قال تعالى: {فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ
كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون}10.
والثقة الكبيرة
بالله تتجلي بوضوح في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو سيد
الواثقين بالله، فبينما هو وصاحبه في الغار لما خرجا مهاجرين والكفار على
بابه، قال له أبو بكر خائفًا: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال:
ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما"11، ويُسجِل القرآن هذا الموقف
الخالد ليكون عبرة للمؤمنين، قال الله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ
نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ
إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ
اللّهَ مَعَنَا، فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
السُّفْلَى، وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ}12، وظهرت ثقته العالية بالله وهو في طريق الهجرة إلى المدينة
حينما لحق به سُراقة بن جُعشُم وهو مصمم على قتله، ورسول الله يمشي مشية
المطمئن لا يلتفت، لأنه يعلم يقينا أن الله عاصمُه.
وها هو عليه الصلاة
والسلام يلقن الأُمة درسًا في الثقة بالله وذلك حينما قال لابن عباس:
((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك،إذا سألت فاسأل الله، وإذا
استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم
يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))13، وفي
رواية الإمام أحمد: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء
يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن
ليخطئك)).
بالثقة واليقين يكون التسليم لحكم الله وقدره، وهي مرتبة
الصِّديقية التي بعد النبوة، وكان سيدنا أبو بكر سيد هذه المنزلة، إذ كان
أكثر الصحابة ثقة بالله ويقينا، مما جعله يقف مواقف خالدةَََََََََ
ََبرهنت على عميق إيمانه وتصديقه، وهو الذي نزل فيه قول الله تعالى:
(وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ)14.
ومن مواقفه الدالة على ثقته الكبيرة في الله وتصديقه
لرسول الله، أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو الله ويستغيثه
ويستنصره ويلح في ذلك يوم بدر "حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر
فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله: كفاك
مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك"15.
وكان مما قاله قبل موته:
"اللهم إنك دبَّرت الأمور وجعلت مصيرها إليك، فأحيني بعد الموت حياة طيبة،
وقربني إليك زلفى، اللهم من أصبح وأمسى ثقته ورجاؤه غيرك فأنت ثقتي
ورجائي، ولا حول ولا قوة إلا بالله"16.
وما استحق المهاجرون والأنصار
أن يذكرهم الله في كتابه فتتلوَ الأجيال ثناء الله على جهادهم وصدقهم إلا
بإيمانهم الواثقِ بالله وتصديقهم الذي لا يخالطه شك برسول الله واتِّباعهم
له.
قال عامر بن قيس: "ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنا
فيه: قرأت قول الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ
كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ، وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدُيرٌ}17، فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضرا لم يقدر أحد على
وجه الأرض أن يدفعه عني، وإن أراد أن يعطيني شيئًا لم يقدر أحد أن يأخذه
مني، وقرأت قوله تعالى: {فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي
وَلاَ تَكْفُرُونِ}18، فاشتغلت بذكره جل وعلا عمّا سواه، وقرأت قوله
تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ
مُّبِينٍ}19، فعلمت وأيقنت وازددت ثقة بأن رزقي عند الله ولن يأخذه أحد
غيري".
اللهم أحينا مؤمنين موقنين، وتوفنا مسلمين واثقين موحدين،
واحشرنا فرحين مستبشرين، واجعلنا من أهل التصديق والتحقيق، وأدخل الإيمان
في قلوب أهل التشكيك.