وحدك في الغربة ..
وحدك تطل من البلكون العالي في شقتك الفاخرة في نيويورك .. بعيدا عن الوطن .. بعيدا عن الأهل .. وبعيدا عن حبك .. وحدك في مدينة تتلألأ أضواء بناياتها الشاهقة في المساء .. وتزدحم شوارعها بالأجساد الغريبة .. التي لا تعرف لغتك ..و قليل منهم من سمع بكلمة ... كويت!
وحدك قهوتك بيدك .. وحدك وليل نيويورك يرسل في جسدك المعلق في إحدى ناطحات السحاب، حيث اخترت لك مسكنا
هناك، قشعريرة حنين قديمة .. لطالما قاومتها .. ولكنها أبت ألا تنسلخ من قلبك .. حنين للوطن .. حنين للأهل .. حنين لها ..!
وحدك في الغربة ..
تعزف أنغام البيانو المركون في زاوية الشقة على وتر شوقك .. ولهفتك .. فتعيد الذكرى .. وتتذكر أيام الكويت .. أيام العطلة .. اليوم الخميس .. في الماضي كنتم تذهبون للشاليه يوم الخميس .. كل الأهل موجودين .. كل الأقارب مجتمعين .. وهي .. كانت موجودة أيضا .. عادة الذهاب للشاليه لم تنقطع .. أنت من قطعتها بنفسك .. اخترت الغربة وتغربت .. اخترت نيويورك ومدينة الأضواء وابتعدت .. اخترت شقتك المعلقة في ناطحة السحاب وانزويت .. انتهت سنوات الدراسة ولم تنتهي غربتك .. رجوك الأهل بالرجوع .. فلم تقنع .. طلبك عمك للعمل معه في شركته .. فلم ينفع .. اخترت العمل في بلاد لا تعرف لهجتك .. ولا تتفهم ألمك .. وتغربت ..
وحدك في الغربة ..
لا تسليك سوى حفلاتك التي تقيمها بين الحين والآخر في شقتك .. والسهر على أضواء نيويورك الليلة .. يسليك بعض المغتربين من أبناء الوطن .. وبعض ممن كانت السنوات الطويلة التي قضيتها هنا كفيلة
بعمل صداقات حميمة معهم ومع عائلاتهم .. ولكنها لا تعوض جمعة الأهل ... ولا تعوض اللقاء بهم .. ولا اللقاء بها ..!
وحدك في الغربة ..
وعزاؤك الوحيد جهاز كمبيوترك .. وسلوتك الوحيدة الانرتنت .. تتحدث مع أشخاص لا تعرفهم .. وبعضهم تعرفهم .. تأتيك آخر أخبار البلد وأنت في المنفى .. وتتعرف على آخر تطورات العائلة وأنت في الغربة
... وآخر تطوراتها !! .. ترسل الإيميلات لأشخاص تعرفهم .. وآخرون لا عرفهم .. فتيات تعرفت عليهن من الوطن عبر الشبكة .. أغرتهن حياتك في الغربة .. تمنين لو استطعن الفرار من قيود البلاد والعيش معك
فوق أضواء نيويورك .. تلهفن لرؤيتك .. ولكنها هي لا تعلم عنك شيئا ... ولم تصلها رسالة منك .. ولم تتلهف لرؤيتك .. تركتها حين تزوجت ... صدمت .. أحسست بطعنة في قلبك .. جُرحت .. سافرت .. تركت الوطن
... والأهل .. وتركتها .. قبل فترة أتاك خبر طلاقها .. وولد معلق على كتفها .. لا يزيد عمره عن الثلاثة أعوام .. أحسست بوهج الشوق يصدح في قلبك المحطم .. أحسست بالروح تعود لأملك الذي دُفن تحت زحام أهل نيويورك وأعمالك المغتربة هناك .. أحسست بالدم يعود لوريدك .. وبأنك تحبها ..
وحدك في الغربة ..
تعود أدراجك إلى داخل شقتك الراقية .. تتقدم نحو جهاز كمبيوترك .. تضع قهوتك جانبا وتجلس وراءه .. تفكر شاردا .. اليوم الخميس .. أكيد هي ذهبت مع الأهل الآن إلى الشاليه .. تجلس على الشاطئ تداعب صدف
الموج المتكسر على قدميها الناعمتين .. ولكنها بالتأكيد هي ليست وحدها .. أكيد هذه المرة مع وليدها .. تداعبه بزبد البحر .. وترشه ببعض الماء المالح .. ابنها .. الذي كان يفترض أن يكون ابنك .. تعبث بصندوق إيميلاتك .. تختار عنوانا لإحدى معجباتك اللاتي يتهافتن على مراسلتك من خلال صداقتك معهن وهن في أرض الوطن .. تكتب رسالة من كلمتين .. " أنا .. أحبك " .. و .. send .. ترسلها .. تطلق تنهيدة طويلة .. ترشف قليلا من قهوتك .. وتتخيل الرسالة تصل إليها عبر الشاطئ في رحلتها الآن للشاليه .. تخرج إليها من بين الموج أصدافا .. وترتسم على الرمل .. " أنـا .. أحبــك " ..!